كثيرة
هى تحديات هذا الوطن.. وأهم التحديات كانت حرب أكتوبر العظيم كل فى مكانه ومكانته يعمل بجهد وإخلاص.. وكان قطاع البترول أحد أهم عوامل النصر بجانب تضحيات جيشنا العظيم.
ومع إشراقة السابع عشر من نوفمبر من كل عام، تحل علينا ذكرى اليوم القومى للبترول المصرى، ذلك اليوم الذى ارتبط بأحد أهم ثمار نصر أكتوبر المجيد استرداد حقول البترول المصرية فى سيناء وخليج السويس بعد سنوات من الاحتلال الإسرائيلى.
ففى مثل هذا اليوم من عام 1975، شهدت مدينة رأس سدر بسيناء اول خطوة فى استرداد حقول البترول المصرية فى سيناء وخليج السويس بعد ما يقرب من 3000 يوم عقب عدوان 1967 ، تسلم المهندس أحمد هلال وزير البترول آنذاك، اول مجموعة من الحقول المصرية متمثلة فى حقول سدر وعسل ومطارمة تنفيذا لاتفاق فض الاشتباك الثانى بعودة السيادة المصرية الكاملة على مدينة رأس سدر التى ارتفع العلم المصرى عليها .
وقف المهندس أحمد هلال فوق أحد آبار حقل سدر وسط مجموعة كبيرة من المهندسين والفنيين المصريين الذين تولوا مهمة استلام الحقول وبلغ عددهم 32 عاملاً منهم من كانوا يعملون فيها حتى عدوان يونيه 1967، وأدار هلال محبس البئر ليتدفق الذهب االأسود، مصحوباً بتهليل وفرحة العاملين الذين عاشوا لحظة تاريخية لاسترداد بترول مصر بعد أكثر من ثمانية أعوام من الاحتلال الإسرائيلى لحقول سيناء وخليج السويس.
وفى ذات اليوم ، انطلقت من ميناء رأس سدر الناقلة “سلام” محملة بأول شحنة من بترول هذه الحقول بعد عودتها الى السيادة المصرية إلى مصافى التكرير بالسويس، لتتحول إلى منتجات بترولية (البنزين والمازوت والكيروسين) للاستهلاك المحلى، كما وقّع سمير تادرس نائب رئيس الشركة العامة للبترول فى ذات اليوم على أوراق تسلم إدارة الحقول للشركة العامة، حيث كانت تدير الحقول شركة موبيل أويل الأمريكية قبل الاحتلال .
ورغم أن المحتلين استنزفوا امكانيات هذه الحقول على مدار سنوات وأقدموا قبل انسحابهم على تدمير المنشآت النفطية وإتلاف الآبار والمعدات والوثائق الفنية، فإن هذا لم يوقف عزيمة أبناء الشركة العامة للبترول الذين خاضوا عبور جديد لإعادة احياء حقول سدر وعسل ومطارمة، وكانت لا تنتج آنذاك سوى 4 آلاف برميل يوميا فقط ، وقامت الشركة بعمل مسح سيزمى ثنائى الأبعاد ثم مسح ثلاثى الأبعاد ودراسات جيولوجية و دراسة الخزان و قامت بعمل اصلاح للابار واعادة الانتاج منها .
واليوم، وبعد مرور خمسين عاما على تسلم هذه الحقول، لا يزال إنتاجها مستمرا، بل جرى تعظيمه بجهود مخلصة بذلها رجال الشركة العامة للبترول، مستندين إلى العلم والتكنولوجيا الحديثة، بالتعاون مع شركة كندية متخصصة، وقد أثمرت هذه الجهود عن حفر نحو 300 بئر ضمن امتياز سيناء، من بينها 240 بئرا فى حقل سدر، و40 بئرا فى حقل عسل، و10 آبار فى حقل مطارمة، ليصل الإنتاج اليومى فى عام 2024 إلى نحو 21 ألف برميل يوميا، بإجمالى إنتاج تراكمى تجاوز 140 مليون برميل خلال نصف قرن من العطاء.
كانت تلك الخطوة الأولى فى مسيرة استرداد مصر لحقولها البترولية التسع فى سيناء وخليج السويس ، تمهيدا لعودة الحقول المصرية الكبرى ذات الانتاج الضخم وهى أبو رديس وبلاعيم برى وبحرى وسدرى وفيران .
ابورديس .. الفرحة الكبرى ودرّة العقد البترولي
وعقب ايام جاءت الخطوة المنتظرة ، استرداد حقول ابورديس التى تمثل مجموعة الحقول الكبرى ، إذ اكملت اسرائيل انسحابها من مجموعة الحقول المصرية الأخرى فى المنطقة الوسطى من الساحل الشرقى لخليج السويس فى مدينة ابورديس جنوب سيناء والتى بدأت فى شهر اكتوبر واستغرقت 8 اسابيع .
وفى اليوم الاول من ديسمبر كانت طائرة خاصة تقل اللواءين محمد القرمانى محافظ سيناء وطه المجدوب رئيس هيئة الإتصال والسيد محمد على بشير رئيس الشركة الشرقية للبترول ( بترول بلاعيم حالياً ) وتهبط فى مطار مدينة ابورديس ، حيث اشرفوا على مهمة استلام الحقول التى عادت الى الإدارة المصرية واحضان الوطن ، وبدأ الفنيون المصريون تشغيل الحقول التى كانت تتبع الشركة الشرقية للبترول حينها قبل الاحتلال.
وتم رفع العلم المصرى على المعسكر الخاص بالعاملين بالحقول فى يوم 3 ديسمبر، والتى تشترك شركة إينى الإيطالية فى إدارتها مع الجانب المصري. وقدرت الشركة الإيطالية الإنتاج من الحقول بنحو 70 ألف برميل يوميا مما جعلها مكسباً كبيراً حيث تعد بالغة الضخامة مقارنة بحقول سدر .
وفى اليوم ذاته تم شحن مخزون الانتاج من هذه الحقول والبالغ نحو 500 ألف برميل تم إيداعها بمستودعات التخزين بالمنطقة بعد إنتاجها لحساب مصر خلال الايام السابقة على الاستلام النهائي، وشهد المهندس أحمد هلال وزير البترول شحنها من ميناء فيران الذى تم استرداده أيضا بواسطة الناقلة سلام إلى معامل التكرير بالسويس، و تم توقيع وثيقة تسليم الحقول فى احتفال كبير .
وقبيل تسليم الحقول كانت وزارة البترول قد انتهت من تدريب وتأهيل 100 كادر فنى للدفع بهم الى العمل مع الجانب الايطالى بعد اكتمال مهمة التسليم .
ويصف الكاتب الصحفى صلاح منتصر فى مقاله بجريدة الأهرام بتاريخ 6 ديسمبر 1975 حقول أبورديس بأنها إحدى درر العقد البترولى الذى يلمع فوق عنق مصر بالخير، مشيرا إلى أن فى أبورديس يوجد أول حقل بحرى تم حفره فى مصر وهو بلاعيم بحرى عام 1961، الذى فتح الطريق للكشف عن البترول فى حقول أخرى تحت مياه خليج السويس مثل مرجان ويوليو ورمضان، إضافة إلى حقول بلاعيم برى وسدرى وفيران ومنشآتها من منطقة تخزين وميناء فيران للشحن ..
لم يكن هذا الإنجاز وليد الصدفة، بل ثمرة من ثمار نصر أكتوبر العظيم، الذى فتح الطريق لاستعادة كل الحقول التسعة فى سيناء وخليج السويس. واليوم، ما زالت حقول أبورديس تنتج أكثر من 50 ألف برميل يومياً، لتظل رمزاً للعزة الوطنية وواحدة من ركائز إنتاج البترول المصرى.
شِعٓب على ...اكتمال ملحمة استرداد الحقول المصرية
فى الخامس والعشرون نوفمبر 1979 ، اكتملت ملحمة استرداد الحقول المصرية ، حين تسلمت شركة بترول خليج السويس ( جابكو ) الحقل البحرى شعب على والذى يقع فى الجزء الجنوبى الشرقى من خليج السويس، على بعد 67 كيلومترًا من رأس شقير. وقد بدأت أعمال التنقيب فيه قبل حرب يونيو 1967 بواسطة الشركة العامة للبترول، غير أن الحرب حالت دون استكمالها. وبعد الاحتلال، تولّت شركة “نبتون” الأمريكية تشغيل الحقل لحساب شركة النفط الإسرائيلية، التى بدأت الإنتاج عام 1978، وقامت بحفر 15 بئرًا بإنتاج عشوائى ، وعقب اتفاقية السلام واستعادة مصر لحقولها فى سيناء، أوكلت الدولة مهمة استلام وتشغيل الحقل إلى شركة جابكو التى كان الدكتور حمدى البنبى وزير البترول الأسبق رحمه الله رئيسا لها آنذاك تقديرا لمكانتها وخبرتها الفنية، وعلى الرغم من محدودية المعلومات الفنية المتاحة، نجحت الشركة فى إعداد كوادرها لاستلام وتشغيل الحقل وفقًا لأعلى المعايير الفنية.
ويروى الدكتور البنبى فى مذكراته لحظة تسليم الحقل حين طلب من رئيس المجموعة الإسرائيلية إنزال العلم الإسرائيلى ورفع العلم المصري، فعم الصمت المهيب المكان، وسيطر الحزن والغضب على الجانب الإسرائيلى ولوحظ وجود قوارب تحمل مدافع وأسلحة كانت مغطاة بستائر جلدية وصدرت تعليمات بكشفها كمحاولة لاستعراض القوة من الجانب الإسرائيلى وتجلّت فى تلك اللحظة عزة مصر وكبرياؤها، إذ قال الدكتور حمدى البنبى عبارته الخالدة:
“إن مصر ضحت بمئات الآلاف من الشهداء، وليس مستحيلاً أن يُضاف إليهم ثمانية أو عشرة شهداء.” فى إشارة إلى عزيمة الوفد المصرى فى استكمال مهمته مهما كانت التحديات.
ومنذ ذلك اليوم، ، حرصت جابكو على إيقاف الاستنزاف العشوائي، وأنشأت ثلاث منصات جديدة ليصبح إجمالى المنصات المنتجة خمس منصات، وربطت الإنتاج بخط بحرى بطول 32 كيلومتراً إلى تسهيلات رأس العش البرية. كما حفرت 39 بئر اضافي، ليرتفع إجمالى الآبار إلى 54 بئراً، وبلغ الإنتاج فى فبراير 1982 نحو 42 ألف برميل يومياً .
واليوم، وبعد أكثر من أربعة عقود ونصف من استلام الحقل، تجاوز إجمالى إنتاجه التراكمى 130 مليون برميل من الزيت الخام حتى أكتوبر 2025، ويواصل عطاؤه بمعدل إنتاج يقارب 1600 برميل يوميا .
خمسون عاماً من العطاء.. وراية البترول لا تزال خفاقة
من رأس سدر إلى أبورديس وشِعب علي، كانت ملحمة استرداد الحقول البترولية شاهدة على عزم أبناء مصر وإرادتهم الصلبة.
واليوم، وبعد مرور خمسين عامًا على تلك اللحظة الفارقة، يواصل قطاع البترول المصرى رحلته فى تعظيم الإنتاج وتنمية الحقول، مستنداً إلى العلم والتكنولوجيا الحديثة، ومؤكداً أن ما بدأه جيل أكتوبر ما زال يمتد أثره فى كل انجاز بترولى جديد.