حين تحولت الصدفة إلى ثروةمن أبو ماضى إلى ظهر ..

العدد الأول نوفمبر 2025

فى‭ ‬

ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضى،‭ ‬كانت‭ ‬مصر‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬الزيت‭ ‬الخام‭ ‬لتغذية‭ ‬صناعتها‭ ‬الوليدة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أحد‭ ‬يتخيل‭ ‬أن‭ ‬دلتا‭ ‬النيل‭ ‬تخفى‭ ‬بين‭ ‬طبقاتها‭ ‬بحراً‭ ‬من‭ ‬الغاز‭ ‬ينتظر‭ ‬أن‭ ‬يكتشف‭.‬
وسط‭ ‬الحقول‭ ‬الخضراء‭ ‬والقرى‭ ‬الهادئة،‭ ‬كانت‭ ‬أجهزة‭ ‬الحفر‭ ‬تدقّ‭ ‬الأرض‭ ‬فى‭ ‬صمت‭ ‬حتى‭ ‬جاء‭ ‬العام‭ ‬1967،‭ ‬عندما‭ ‬انطلقت‭ ‬أول‭ ‬نفثة‭ ‬غاز‭ ‬من‭ ‬باطن‭ ‬الأرض‭ ‬لتعلن‭ ‬ولادة‭ ‬حقل‭ ‬أبو‭ ‬ماضى،‭ ‬أول‭ ‬اكتشاف‭ ‬غازى‭ ‬فى‭ ‬تاريخ‭ ‬مصر،‭ ‬وبداية‭ ‬رحلة‭ ‬غيرت‭ ‬مستقبل‭ ‬الطاقة‭ ‬فى‭ ‬البلاد‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭.‬

 

من‭ ‬المسوح‭ ‬إلى‭ ‬المفاجأة‭..‬

البدايات‭ ‬المدهشة

بدأت‭ ‬القصة‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬بسنوات‭ ‬طويلة‭.‬

فى‭ ‬أربعينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬شرعت‭ ‬فرق‭ ‬المسح‭ ‬الجيولوجى‭ ‬فى‭ ‬استكشاف‭ ‬دلتا‭ ‬النيل‭ ‬باستخدام‭ ‬تقنيات‭ ‬بدائية‭ ‬آنذاك،‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬أى‭ ‬مؤشرات‭ ‬للزيت‭.‬

ثم‭ ‬حصلت‭ ‬الشركة‭ ‬الدولية‭ ‬الإيطالية‭ ‬فى‭ ‬أوائل‭ ‬الستينيات‭ ‬على‭ ‬امتياز‭ ‬للتنقيب‭ ‬شمال‭ ‬الدلتا،‭ ‬فحفرت‭ ‬ثلاث‭ ‬آبار‭ ‬تجريبية‭: ‬ميت‭ ‬غمر‭ ‬1،‭ ‬كفر‭ ‬الشيخ‭ ‬1،‭ ‬وأبو‭ ‬ماضى‭ ‬1‭.‬

لكن‭ ‬المفاجأة‭ ‬الكبرى‭ ‬جاءت‭ ‬مع‭ ‬البئر‭ ‬الأخيرة،‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬تخرج‭ ‬زيتًا‭ ‬بل‭ ‬غازًا‭ ‬طبيعيًا‭ ‬صافياً‭ ‬من‭ ‬عمق‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬3400‭ ‬متر‭.‬

كانت‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬بمثابة‭ ‬نقطة‭ ‬التحول‭ ‬فى‭ ‬تاريخ‭ ‬البترول‭ ‬المصري،‭ ‬حين‭ ‬أدرك‭ ‬الخبراء‭ ‬أن‭ ‬مصر‭ ‬تجلس‭ ‬فوق‭ ‬كنز‭ ‬استراتيجى‭ ‬جديد‭.‬

“أبو‭ ‬ماضي”‭..‬

الاسم‭ ‬الذى‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬رمز

يحمل‭ ‬الحقل‭ ‬اسمه‭ ‬من‭ ‬مقام‭ ‬أحد‭ ‬الأولياء‭ ‬الصالحين‭ ‬فى‭ ‬المنطقة،‭ ‬وكأن‭ ‬القدر‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يمنح‭ ‬البركة‭ ‬لاسمه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يمنحها‭ ‬للبلاد‭.‬

يقع‭ ‬الحقل‭ ‬على‭ ‬بُعد‭ ‬180‭ ‬كيلومترًا‭ ‬شمال‭ ‬القاهرة‭ ‬و8‭ ‬كيلومترات‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬ساحل‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط،‭ ‬فى‭ ‬موقع‭ ‬جمع‭ ‬بين‭ ‬عبقرية‭ ‬الجغرافيا‭ ‬وغنى‭ ‬الجيولوجيا‭.‬

وفى‭ ‬عام‭ ‬1973،‭ ‬أُسست‭ ‬شركة‭ ‬بترول‭ ‬الدلتا‭ (‬ديليكو‭) ‬بين‭ ‬هيئة‭ ‬البترول‭ ‬والشركة‭ ‬الإيطالية‭ ‬لتطوير‭ ‬الحقل،‭ ‬لتبدأ‭ ‬مرحلة‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفعلى‭ ‬فى‭ ‬ديسمبر‭ ‬1974‭ ‬بمعدل‭ ‬4‭.‬5‭ ‬مليون‭ ‬قدم‭ ‬مكعب‭ ‬يوميًا‭.‬

الانطلاقة‭ ‬الكبرى‭.. ‬

مصر‭ ‬تُشعل‭ ‬أول‭ ‬شعلة‭ ‬غاز

مع‭ ‬عام‭ ‬1978،‭ ‬تولّت‭ ‬شركة‭ ‬بتروبل‭ ‬إدارة‭ ‬الحقل،‭ ‬وأطلقت‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬التطوير‭ ‬أعادت‭ ‬رسم‭ ‬خريطة‭ ‬الإنتاج‭ ‬فى‭ ‬الدلتا‭.‬

وبين‭ ‬عامى‭ ‬1980‭ ‬و1989،‭ ‬حفرت‭ ‬الشركة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬20‭ ‬بئرًا‭ ‬إضافية‭ ‬رفعت‭ ‬الإنتاج‭ ‬اليومى‭ ‬إلى‭ ‬125‭ ‬مليون‭ ‬قدم‭ ‬مكعب،‭ ‬واحتياطى‭ ‬الغاز‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬2‭.‬7‭ ‬تريليون‭ ‬قدم‭ ‬مكعب،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬“أبو‭ ‬ماضي”‭ ‬مركز‭ ‬الثقل‭ ‬فى‭ ‬صناعة‭ ‬الغاز‭ ‬المصرية‭ ‬لعقدين‭ ‬كاملين‭.‬

دلتا‭ ‬النيل‭.. ‬بحر‭ ‬من‭ ‬الغاز‭ ‬تحت‭ ‬التراب

لم‭ ‬يكن‭ ‬“أبو‭ ‬ماضى”‭ ‬سوى‭ ‬البداية‭.‬

فبعد‭ ‬نجاحه،‭ ‬توالت‭ ‬الاكتشافات‭ ‬فى‭ ‬أنحاء‭ ‬الدلتا‭ ‬والبحر‭ ‬المتوسط‭: ‬أبو‭ ‬قير‭ ‬البحرى‭ ‬عام‭ ‬1969‭ ‬كأول‭ ‬حقل‭ ‬غاز‭ ‬فى‭ ‬البحر،‭ ‬ثم‭ ‬أبو‭ ‬الغراديق‭ ‬بالصحراء‭ ‬الغربية‭ ‬عام‭ ‬1971،‭ ‬لتليها‭ ‬حقول‭ ‬القرعة،‭ ‬نيدوكو،‭ ‬وجنوب‭ ‬بلطيم،‭ ‬التى‭ ‬أثبتت‭ ‬أن‭ ‬باطن‭ ‬دلتا‭ ‬النيل‭ ‬يمتد‭ ‬كبحر‭ ‬واسع‭ ‬من‭ ‬الغاز‭ ‬الطبيعي‭.‬

الغاز‭ ‬يدخل‭ ‬البيوت‭.. ‬بداية‭ ‬عهد‭ ‬جديد

ومع‭ ‬تزايد‭ ‬الإنتاج،‭ ‬قررت‭ ‬الدولة‭ ‬أن‭ ‬تنقل‭ ‬هذه‭ ‬الثروة‭ ‬إلى‭ ‬حياة‭ ‬المواطنين‭.‬

فى‭ ‬14‭ ‬يناير‭ ‬1981،‭ ‬كانت‭ ‬مدينة‭ ‬حلوان‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬حدث‭ ‬تاريخي‭: ‬أول‭ ‬عملية‭ ‬توصيل‭ ‬للغاز‭ ‬الطبيعى‭ ‬للمنازل‭ ‬فى‭ ‬مصر‭.‬

ومن‭ ‬هناك‭ ‬انتشرت‭ ‬الخدمة‭ ‬إلى‭ ‬المعادى‭ ‬ومدينة‭ ‬نصر‭ ‬ومصر‭ ‬الجديدة،‭ ‬ثم‭ ‬الجيزة‭ ‬عام‭ ‬1987،‭ ‬والإسكندرية‭ ‬عام‭ ‬1996،‭ ‬وبورسعيد‭ ‬عام‭ ‬1997‭.‬

وفى‭ ‬نهاية‭ ‬التسعينيات،‭ ‬وُلدت‭ ‬شركة‭ ‬تاون‭ ‬جاس‭ ‬لتتولى‭ ‬مهمة‭ ‬توصيل‭ ‬الغاز‭ ‬للمنازل‭ ‬والمنشآت،‭ ‬فى‭ ‬خطوة‭ ‬غيّرت‭ ‬أسلوب‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬لملايين‭ ‬المصريين‭.‬

الألفية‭ ‬الجديدة‭.. ‬مصر‭ ‬على‭ ‬خريطة‭ ‬التصدير‭ ‬

مع‭ ‬دخول‭ ‬القرن‭ ‬الحادى‭ ‬والعشرين،‭ ‬انتقلت‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬الإنتاج‭ ‬المحلى‭ ‬إلى‭ ‬التصدير‭ ‬الخارجى‭.‬

تأسست‭ ‬الشركة‭ ‬المصرية‭ ‬القابضة‭ ‬للغازات‭ ‬الطبيعية‭ (‬إيجاس‭) ‬عام‭ ‬2001‭ ‬لتوحيد‭ ‬جهود‭ ‬الدولة‭ ‬فى‭ ‬إدارة‭ ‬هذا‭ ‬القطاع‭ ‬الحيوي،‭ ‬وبدأ‭ ‬تصدير‭ ‬الغاز‭ ‬عبر‭ ‬خط‭ ‬الغاز‭ ‬العربى‭ ‬عام‭ ‬2003،‭ ‬ثم‭ ‬تشغيل‭ ‬محطتى‭ ‬الغاز‭ ‬المسال‭ ‬فى‭ ‬دمياط‭ ‬وإدكو‭ ‬عامى‭ ‬2004‭ ‬و2005‭.‬

تحولت‭ ‬مصر‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬إقليمى‭ ‬للطاقة،‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الإنتاج‭ ‬المحلى‭ ‬والتصدير‭ ‬للأسواق‭ ‬الأوروبية‭ ‬والعربية‭.‬

“ظهر”‭.. ‬الحلم‭ ‬الذى‭ ‬أعاد‭ ‬المجد

لكن‭ ‬المفاجأة‭ ‬الكبرى‭ ‬جاءت‭ ‬فى‭ ‬عام‭ ‬2015،‭ ‬عندما‭ ‬أعلنت‭ ‬شركة‭ ‬“إينى”‭ ‬الإيطالية‭ ‬اكتشاف‭ ‬حقل‭ ‬ظهر‭ ‬فى‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط،‭ ‬باحتياطيات‭ ‬تُقدّر‭ ‬بنحو‭ ‬30‭ ‬تريليون‭ ‬قدم‭ ‬مكعب‭ ‬ وهو‭ ‬أكبر‭ ‬اكتشاف‭ ‬غازى‭ ‬فى‭ ‬تاريخ‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭.‬

أعاد‭ ‬“ظهر”‭ ‬لمصر‭ ‬مكانتها‭ ‬على‭ ‬خريطة‭ ‬الطاقة‭ ‬العالمية،‭ ‬وساهم‭ ‬فى‭ ‬تحقيق‭ ‬الاكتفاء‭ ‬الذاتى‭ ‬من‭ ‬الغاز‭ ‬الطبيعى‭ ‬عام‭ ‬2018،‭ ‬بإنتاج‭ ‬يومى‭ ‬تجاوز‭ ‬7‭ ‬مليارات‭ ‬قدم‭ ‬مكعب‭.‬

تحولت‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬تستورد‭ ‬احتياجاتها‭ ‬إلى‭ ‬مُصدّر‭ ‬قوى‭ ‬ومؤثر‭ ‬فى‭ ‬أسواق‭ ‬الغاز‭ ‬العالمية‭.‬

مصر‭ ‬اليوم‭.. ‬مركز‭ ‬إقليمى‭ ‬للطاقة

لم‭ ‬تتوقف‭ ‬القصة‭ ‬عند‭ ‬“ظهر”،‭ ‬بل‭ ‬امتدت‭ ‬إلى‭ ‬اكتشافات‭ ‬جديدة‭ ‬مثل‭ ‬النرجس،‭ ‬نور،‭ ‬وخوفو‭ ‬فى‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط،‭ ‬لتؤكد‭ ‬أن‭ ‬ثروة‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬الغاز‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬فى‭ ‬بدايتها‭.‬

كما‭ ‬أُعلن‭ ‬فى‭ ‬القاهرة‭ ‬عام‭ ‬2020‭ ‬عن‭ ‬تأسيس‭ ‬منتدى‭ ‬غاز‭ ‬شرق‭ ‬المتوسط،‭ ‬ليكون‭ ‬منصة‭ ‬دولية‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬المنتجة‭ ‬والمستهلكة،‭ ‬وتضع‭ ‬مصر‭ ‬فى‭ ‬قلب‭ ‬معادلة‭ ‬الطاقة‭ ‬الإقليمية‭.‬

من‭ ‬أعماق‭ ‬الأرض‭ ‬إلى‭ ‬آفاق‭ ‬المستقبل

منذ‭ ‬أن‭ ‬انطلقت‭ ‬أول‭ ‬نفثة‭ ‬غاز‭ ‬فى‭ ‬“أبو‭ ‬ماضي”‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن،‭ ‬ومصر‭ ‬تمضى‭ ‬فى‭ ‬رحلة‭ ‬ملهمة‭ ‬أثبتت‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬الثروة‭ ‬الحقيقية‭ ‬ليست‭ ‬فيما‭ ‬تملكه‭ ‬الأرض،‭ ‬بل‭ ‬فيمن‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يستخرجها‭ ‬ويصونها‭.‬

تحولت‭ ‬الصدفة‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬استراتيجية،

والاكتشاف‭ ‬الفردى‭ ‬إلى‭ ‬صناعة‭ ‬قومية‭ ‬عملاقة‭.‬

واليوم،‭ ‬تقف‭ ‬مصر‭ ‬أمام‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬قصتها‭ ‬مع‭ ‬الغاز‭ ‬‭ ‬قصة‭ ‬وطن‭ ‬استخرج‭ ‬من‭ ‬باطن‭ ‬الأرض‭ ‬وقودًا‭ ‬لبناء‭ ‬المستقبل‭.‬

اهم الاخبار
جميع الحقوق محفوظة © 2025 مجلة البترول
Powered By : Idea World Web