فى
ستينيات القرن الماضى، كانت مصر تبحث عن الزيت الخام لتغذية صناعتها الوليدة، ولم يكن أحد يتخيل أن دلتا النيل تخفى بين طبقاتها بحراً من الغاز ينتظر أن يكتشف.
وسط الحقول الخضراء والقرى الهادئة، كانت أجهزة الحفر تدقّ الأرض فى صمت… حتى جاء العام 1967، عندما انطلقت أول نفثة غاز من باطن الأرض لتعلن ولادة حقل أبو ماضى، أول اكتشاف غازى فى تاريخ مصر، وبداية رحلة غيرت مستقبل الطاقة فى البلاد إلى الأبد.
من المسوح إلى المفاجأة..
البدايات المدهشة
بدأت القصة قبل ذلك بسنوات طويلة.
فى أربعينيات القرن العشرين، شرعت فرق المسح الجيولوجى فى استكشاف دلتا النيل باستخدام تقنيات بدائية آنذاك، بحثًا عن أى مؤشرات للزيت.
ثم حصلت الشركة الدولية الإيطالية فى أوائل الستينيات على امتياز للتنقيب شمال الدلتا، فحفرت ثلاث آبار تجريبية: ميت غمر 1، كفر الشيخ 1، وأبو ماضى 1.
لكن المفاجأة الكبرى جاءت مع البئر الأخيرة، التى لم تخرج زيتًا بل غازًا طبيعيًا صافياً من عمق يزيد على 3400 متر.
كانت تلك اللحظة بمثابة نقطة التحول فى تاريخ البترول المصري، حين أدرك الخبراء أن مصر تجلس فوق كنز استراتيجى جديد.
“أبو ماضي”..
الاسم الذى تحول إلى رمز
يحمل الحقل اسمه من مقام أحد الأولياء الصالحين فى المنطقة، وكأن القدر أراد أن يمنح البركة لاسمه قبل أن يمنحها للبلاد.
يقع الحقل على بُعد 180 كيلومترًا شمال القاهرة و8 كيلومترات فقط من ساحل البحر المتوسط، فى موقع جمع بين عبقرية الجغرافيا وغنى الجيولوجيا.
وفى عام 1973، أُسست شركة بترول الدلتا (ديليكو) بين هيئة البترول والشركة الإيطالية لتطوير الحقل، لتبدأ مرحلة الإنتاج الفعلى فى ديسمبر 1974 بمعدل 4.5 مليون قدم مكعب يوميًا.
الانطلاقة الكبرى..
مصر تُشعل أول شعلة غاز
مع عام 1978، تولّت شركة بتروبل إدارة الحقل، وأطلقت مرحلة جديدة من التطوير أعادت رسم خريطة الإنتاج فى الدلتا.
وبين عامى 1980 و1989، حفرت الشركة أكثر من 20 بئرًا إضافية رفعت الإنتاج اليومى إلى 125 مليون قدم مكعب، واحتياطى الغاز إلى أكثر من 2.7 تريليون قدم مكعب، ما جعل “أبو ماضي” مركز الثقل فى صناعة الغاز المصرية لعقدين كاملين.
دلتا النيل.. بحر من الغاز تحت التراب
لم يكن “أبو ماضى” سوى البداية.
فبعد نجاحه، توالت الاكتشافات فى أنحاء الدلتا والبحر المتوسط: أبو قير البحرى عام 1969 كأول حقل غاز فى البحر، ثم أبو الغراديق بالصحراء الغربية عام 1971، لتليها حقول القرعة، نيدوكو، وجنوب بلطيم، التى أثبتت أن باطن دلتا النيل يمتد كبحر واسع من الغاز الطبيعي.
الغاز يدخل البيوت.. بداية عهد جديد
ومع تزايد الإنتاج، قررت الدولة أن تنقل هذه الثروة إلى حياة المواطنين.
فى 14 يناير 1981، كانت مدينة حلوان على موعد مع حدث تاريخي: أول عملية توصيل للغاز الطبيعى للمنازل فى مصر.
ومن هناك انتشرت الخدمة إلى المعادى ومدينة نصر ومصر الجديدة، ثم الجيزة عام 1987، والإسكندرية عام 1996، وبورسعيد عام 1997.
وفى نهاية التسعينيات، وُلدت شركة تاون جاس لتتولى مهمة توصيل الغاز للمنازل والمنشآت، فى خطوة غيّرت أسلوب الحياة اليومية لملايين المصريين.
الألفية الجديدة.. مصر على خريطة التصدير
مع دخول القرن الحادى والعشرين، انتقلت مصر من مرحلة الإنتاج المحلى إلى التصدير الخارجى.
تأسست الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس) عام 2001 لتوحيد جهود الدولة فى إدارة هذا القطاع الحيوي، وبدأ تصدير الغاز عبر خط الغاز العربى عام 2003، ثم تشغيل محطتى الغاز المسال فى دمياط وإدكو عامى 2004 و2005.
تحولت مصر فى تلك الفترة إلى مركز إقليمى للطاقة، تجمع بين الإنتاج المحلى والتصدير للأسواق الأوروبية والعربية.
“ظهر”.. الحلم الذى أعاد المجد
لكن المفاجأة الكبرى جاءت فى عام 2015، عندما أعلنت شركة “إينى” الإيطالية اكتشاف حقل ظهر فى البحر المتوسط، باحتياطيات تُقدّر بنحو 30 تريليون قدم مكعب وهو أكبر اكتشاف غازى فى تاريخ البحر المتوسط.
أعاد “ظهر” لمصر مكانتها على خريطة الطاقة العالمية، وساهم فى تحقيق الاكتفاء الذاتى من الغاز الطبيعى عام 2018، بإنتاج يومى تجاوز 7 مليارات قدم مكعب.
تحولت مصر من دولة تستورد احتياجاتها إلى مُصدّر قوى ومؤثر فى أسواق الغاز العالمية.
مصر اليوم.. مركز إقليمى للطاقة
لم تتوقف القصة عند “ظهر”، بل امتدت إلى اكتشافات جديدة مثل النرجس، نور، وخوفو فى البحر المتوسط، لتؤكد أن ثروة مصر من الغاز ما زالت فى بدايتها.
كما أُعلن فى القاهرة عام 2020 عن تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط، ليكون منصة دولية تجمع بين الدول المنتجة والمستهلكة، وتضع مصر فى قلب معادلة الطاقة الإقليمية.
من أعماق الأرض إلى آفاق المستقبل
منذ أن انطلقت أول نفثة غاز فى “أبو ماضي” قبل أكثر من نصف قرن، ومصر تمضى فى رحلة ملهمة أثبتت فيها أن الثروة الحقيقية ليست فيما تملكه الأرض، بل فيمن يعرف كيف يستخرجها ويصونها.
تحولت الصدفة الأولى إلى استراتيجية،
والاكتشاف الفردى إلى صناعة قومية عملاقة.
واليوم، تقف مصر أمام مرحلة جديدة من قصتها مع الغاز — قصة وطن استخرج من باطن الأرض وقودًا لبناء المستقبل.